الصفحات

الاثنين، 7 أبريل 2025

ما فعلته الآلهة: الكائن الرقمي والوفرة الماديّة (2)

هذا النص يأتي استكمالاً لمقالة: علينا أن نفعل ما فعلته الآلهة، والذي تناولت فيه مسألة الكائن الرقمي وظهوره من الوسائط التقنيّة والرقميّة. وأجريّت مقارنة مع الكيفيّة التي كان الرومان يصممون بها المعبد كفضاء مادي وغير مادي في الوقت عيّنه، وخلال عمليّة بناء المعبد على المهندس أن يَخلق "النيومين"؛ أي رهبة المكان.


إذن، وفق هذه الاعتبارات، يُنظر إلى الفضاء المادي المنفصل والمنقطع من منظور تكوين ظاهرته الذاتية، ملقيةً بنفسها أينما كان، ومجبرةً الآخرَ على رؤيتها والتفاعل معها والإحساس بها. إن هذا الحضورَ الماديَّ الذي يستدعي نفسه بنفسه إلى الوجود، كفيلٌ بأن يبتكر أدوات إنشاءٍ للواقع. إذ ليس خارج التمبلوم يُكتشف البعدُ الجديدُ للواقع، إنما داخله.

وليس بعيدًا عن "الروح التي تترأس الشيء" يُكتشف البُعدُ السحيقُ في الواقع، إنما من خلالها. ويمكن طرح السؤال الذي طرحه ميرتشا إلياده: "كيف يولد الشيء؟" (إلياده، 1987، ص 97). تولد الكينونة الرقميّة من الوفرة المادية لا من نقص يصيبها. ويقول إلياده: "كل خليقةٍ تنبع من الوفرة. الخلقُ فائضٌ من الطاقة. فيضٌ للطاقة. الخلقُ يتم إنجازه من خلال فائض وجود المادة".

إن فضاءَ المادة المنفصلة والمنقطعة وُضعت فيه كميةٌ كافيةٌ من المادة الكفيلةُ بأن تخرجه من العدم إلى النشأة، وأن تدفع كينونته للظهور في ذاته. إن معماريةَ التقنية الرقميّة، بشكلها القديم وصولاً إلى شكلها الحديث والراهن، تخضع لشروط نشوء كينونة التمبلوم عند الإغريق وشروط وفرة المادة إذ لا يمكن أن تنشأ الظاهرةُ الرقميةُ على الشاشة لو لم يكن هناك فيضٌ من وجود المادة تحتها.

إن معماريةَ الحوسبة الحديثة... نحن أمام عالمٍ لا نلمس ظواهره، بل نشعر بها، لأنه جرى تصميمه على أن ينفعلَ نحونا ويقبضَ على مسطح حواسنا. عندما ينبعث الكائنُ الرقميُّ من وسطه التقني المادي، يتوجه إلينا ليرتدي حواسنا ويوجهها. علينا أن نسمح للكائن الرقمي أن يأتي إلينا. أن نتيح له ابتلاعنا. ففي نهاية المطاف، نحن لا نشعر بالمادة كجمادٍ. نحن لا نشعر بالشاشة، بل نتوحد معها. وهذا تمامًا شعورٌ بالكائن الحي الذي يظهر من الوسط التقني. يتم هندسةُ الوسط التقني والنطاق الرقمي بنفس الأسلوب الذي تحدثت به هندسةُ المدن والمنازل. ثمة مشاعرُ تكتنزها الأماكنُ كبصمةٍ تنتج أثرًا فارقًا على مستوى الإحساس في قلب من يحضر إليها.

الجمعة، 4 أبريل 2025

علينا أن نفعل ما فعلته الآلهة: خلق الكائن الرقمي

بدوري، أتعامل مع الإيموجيز والميمات ضمن اعتبار وجودي صارم: بأنها تُخلق من رحم شاشة هاتفي، وهي فعلاً كذلك. في كل مرة أنظر إلى إيموجي أو ميم؛ أشعر أنه "يعود إليَّ" عندما يعيد شخص آخر استخدامه.

إن التقنيةَ "آلةٌ ميتافيزيقيةٌ" تخرج كينونات من العدم إلى الوجود. وفي الأصل، أنت أيضاً تتعامل مع هاتفك الذكيّ والايموجيز والميمز والفيديوهات والصور ككائنات حية لأنها لم تعد شيئًا. عندما نستخدم 🤖 أو 🌀، فإننا لا نرسل مجرد رموزاً، بل نستحضر كائنات لها وجودها الخاص. هذه الكائنات كالتمائم والرموز السحرية. كل إيموجي يحمل "نيومينًا رقميًا"، وهو ما سنفصله في نهاية المقالة. في دراسة جامعة طوكيو الرقمية، 2024، أظهر 78% من المشاركين سلوكًا يشير إلى اعتبارهم الإيموجيز "كائنات حية" بدرجة ما.

نحن نخلق التقنيات؛ لا نبتكرها. ولديَّ إصرارٌ شرِهٌ في الإمساك بهذه الفكرة التي سأشرحها بالتفصيل. لذلك، قد تبدو المقالةُ طويلةً وبليدةً، لكنها تحتوي على كمٍّ هائلٍ من المعلومات المفيدة. وخلال دراستي الجامعية، قرأت عبارةً سنسكريتيةً استوقفتني بشدة. تقول العبارة: "إن ما ينطوي عليه الأمر هو خلقُ العالم الذي اختار الإنسانُ أن يسكنه. لذا فمن الضروري تقليدُ عمل الآلهة". هه المقولةُ السنسكريتيةُ تحاكي خلقَ الإنسانِ للعالم بتماهٍ كاملٍ مع فعل الله في خلق الوجود. لم أصدق ما كنت أقرؤه في مجموعة الكتب السنسكريتية، لأنها مبهرةٌ. وأظن أن من الممكن التأسيس عليها لبناء منظومةٍ فكريةٍ خصبةٍ حول عصرنا التقني والرقمي. لقد سعيتُ قدر المستطاع إلى فهم ما كان يقصده السنسكريتيون عن خلق الإنسان للعالم، حتى صرت أنظر إلى عالم التقنيات من منظور الخلق. اليوم، نشاهد كيف تحولت الأشياء والتقنيات إلى "كائناتٍ مستفزّةٍ". الإيموجي الظاهر فوق شاشة هاتفك هو كائنٌ رقميٌّ. هاتفك الذكيّ هو كائن تقني. إنها ليست كائناتٍ عَرَضية، بل كائنات ذات كينونة في ذاتها، وتجسد حمام صابون تقني رقمي وجودي؛ يغمرنا.

تمتلك الكائنات الرقمية بيئة ميتافيزيقية حية؛ وهي إلى يومنا هذا ما زالت تشبه الجزر الوجودية المهجورة والمجهولة. فخلف الشاشة، حياة كاملة يمكن الوصول إليها رقميا. إذ، يتم إنشاء الرسوم والنماذج، دون أن تكون لثانية واحدة جسدية أو مادية. لقد وُلدت رقميًا ولن يُلمسها أحد أبدًا.

كيف تؤثر هذه الكائنات الرقميّة في الطريقة التي نشعر بها؟ يتكوّن الكائن الرقمي ضمن بنية معماريةٍ معقدة ومركبةٍ وبين الأبعاد الميكانيكية والفيزيائية للحوسبة. تسمح الشاشة بأن يتكون كل ما نراه عليها وأن نشعر من خلاله. إن التقنياتُ الذكيةُ هي وسط تقني قادر على توليد الكينونة الرقمية للذات حتى تصير مهيأة على تسويغ ذاتها كظاهرة رقمية ممكنة، وقادرة على أن تخلق فينا المشاعر ونتلقاها بحميميةٍ كبرى.

التمبلوم الروماني وولادة الكائنات الرقمية


تشبه ظروف خلق الكائنات الرقميّة تلك الظروف التي كان يخلقها الرومانُ والإغريقُ عندما ينشئون الـ"تيمبلوم" (Templum) (τέμενος). فلطالما رمزت كلمة "تمبلوم" الرومانية/الإغريقية إلى "المعبد"، ففي هذا الحيز المكاني "التمبلوم"، ثمة أمور مميزة جدًا تخبرنا أن هذا الحيزَ يتجاوز كونه معبدًا فقط (موقع "https://friesian.com/vocab.htm"، الخانة 60).

لقد امتلك لفظ "تمبلوم" مرادفات كثيرة. فهو يعني في السياقات الرومانية والإغريقية الدينية "المعبد"، لكنه عبر التاريخ تعرّض للتشويش نتيجة وروده في القصائد والأساطير القديمة. لذلك إن المعنى الجذري للفظ هو "فضاء مادي منفصل ومنقطع". لقد قسّم الإغريق التمبلوم إلى أربعة أقسام. فهو بالشكل الكلي عبارة عن مساحةٍ أرضية وسماوية في الوقت عينه، ترصدها الآلهة وتحددها، ثم تتنازل عنها للناس لاحقًا (مقالة، www.perseus.tufts.edu، Templum، فقرة 4).

لم يبنِ الإغريق المعابد بشكل عشوائي، بل بنوها بأسلوب دقيق يراعي أشدَّ مراعاةٍ أحاسيس الداخلين إليها. كانت الأقسام توزَّع بين القاعة الرئيسية، والبهو، والردهة الخلفية، والخلوة المعزولة، والسيلا (Cella) - أي قاعة مخفية وخاصة جدًا - والإيبينوس (Epinaos) - وهو حجرة صغيرة في السيلا - بالإضافة إلى البروناوس (pronaos) - وهي مساحة خارجية محاذية للسيلا يحدها عدد محدد من الأعمدة، إما أربعة أو ستة أو عشرة.

اختلفت المساحات الهندسية على مستوى مواد البناء. فبعضها يُبنى بالخشب ومنفصل كليًا عن الأماكن التي تُبنى بالحجر والرخام والبرونز والذهب والفضة. كما كانت المساحاتُ تضيقُ وتتسعُ بشكلٍ فريدٍ جدًا. وأيضاً، لم يكن بناء التمبلوم عند الإغريق مسألة عادية، بل كان بناء معماريا صارما (مقالة، www.perseus.tufts.edu، "Templum"، فقرة 6). 

لم يكن بناء الفضاء المادي المنفصل والمنعزل مرتبطا فقط بالهندسة، بل كان شكلا من أشكال الفضاءات المادية التي تخزن فيما بينها عالم الروح ونبضَ القلب والعين، والمسؤولة عن افتعال التجارب الحسية المنعزلة. كانت بعض مساحات التمبلوم تفتعل سكينةً داخلية وانقباض الذات إلى جوانية الصدر، وبعضها الآخر يعمل على انكشاف الذات نحو السماء. ينشأ التمبلوم من خطوط متخيلة وخطوط واقعية.

إذن ثمة تمبلوم رقمي؛ إنه وسط واقعيّ ينشأ عبر الهندسة المادية الواقعية، ويُفرز بين ثنايا الأعمدة والمساحات شروطَ إمكان الإحساس بوجود أشياءَ ليست إلا متخيلةً. إنه فضاءٌ ماديّ ينطوي على إمكانات الهندسة المتخيلة التي توحي بتغيراتٍ في البناء في حالة إيهامية واستلابية و
تشير إلى تغيير حتى في حالة عدم وجوده" (مقالة، www.perseus.tufts.edu، Templum، فقرة 11). 

لقد نظر الرومان والإغريق إلى معمارية التمبلوم كهندسة ذاتية وبصرية قبل أن تكون هندسة للمواد الصلبة. لذلك يُشرعُ عالمُ الخطوط المرئية وغير المرئية رحلةَ المخيلة والروح نحو مستويات حسيةٍ لا تتحقق إلا في حالات نادرة.
ومن هنا، فإن المعمارية الساحرةَ جدا عليها أن تتجاوز السطحيةَ وتتوجه بجوهرها كي تحقق الـ"نيومين" (Numen).

رهبة المكان أو رهبة الروح: نيومِن الكائن الرقمي

والنيومين تعني "الروحَ التي تترأس شيئا" (Google Translator، كلمة NUMEN). تمثل النيومين "رهبةَ المكان" أو رهبة الروح" التي تستمر في إلقاء ظلالها على الذات، وفيضَ الأثر الذي يدمغه الفضاءُ في العقل والروح. هذه "الروح التي تترأس الشيء" أو رهبة الروح هي ما تمتاز به الميميز والإيموجيز والكائنات الرقميّة. تحضر إلينا وهي ممتلئة بالروح التي تترأس نفسها. تظهر علينا برهبة ذاتها.
لذلك، ما كانت لتتكوْن رهبة التمبلوم لو لم يهتم الإغريق ببعد "فضاء المادة المنفصل" البصري، والذي وضعوا فيه ثقل أفكارهم وأحاسيسهم. إن النظامَ دقيق للغاية من الخطوط المنحنية والمحاور المائلة، "إن العين اليونانية شديدة الحساسية وتوضح بشكل أكثر وضوحًا من أي شيءٍ آخر، إلى أي مدى كانت التصوراتُ الجماليةُ والبصرُ المدروسُ بدقةٍ لليونانيين القدماء أعلى بكثير من تصوراتنا". (موقع، "https://www.perseus.tufts.edu/"، Templum، فقرة 27).

ما كانت لتتكون رهبة الكائنات الرقمية لو لم يكن هذا العالم الحالي؛ خلق لكي يكون مرئياً. فعبر "الروح التي تترأس الشيء"، وعبر البعد البصري والخطوط المائلة المرئية والخيوط الوهمية ولعبة الأضواء التي توحي بكثافةٍ وهمية في المادة، تنشأ "أنطوفانيا" فضاء المادة المنفصل والمنعزل. نحن هنا أمام مثال حي عن آلية نشوء كينونة المكان ورهبته التي تجعله يأتي إلى الناظرين ككيانٍ في ذاته.